سجلت السلطة الفلسطينية رقماً قياسياً في عدد الحكومات التي تشكَّلت منذ أن قامت السلطة في تموز (يوليو) عام 1994، حيث حملت الحكومة الجديدة برئاسة سلام فياض الرقم السادس عشر في الترتيب العام، والخامسة في
ترتيب الحكومات التي ترأسها فياض، (ثلاث حكومات عادية وحكومتا تصريف أعمال).
ترتيب الحكومات التي ترأسها فياض، (ثلاث حكومات عادية وحكومتا تصريف أعمال).
ومن اللافت أن أربع شخصيات فقط تولت قبل فياض رئاسة الحكومات الفلسطينية، أولها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (خمس حكومات من أيلول/سبتمبر 1994حتى نيسان/ أبريل 2003)، جمع فيها بين رئاسة الحكومة ورئاسة السلطة، وحكومة واحدة برئاسة محمود عباس لم تعمر أكثر من مئة وثلاثين يوماً (تشكلت في 29 نيسان/أبريل 2003 وقدمت استقالتها في 6 أيلول/سبتمبر من العام نفسه)، وثلاث حكومات برئاسة أحمد قريع (من تشرين الأول/أكتوبر 2003 حتى آذار/مارس 2006)، وحكومتان برئاسة إسماعيل هنية (من أيار/مايو 2006 إلى أيار/مايو 2007)، الثانية كانت حكومة وحدة وطنية.
المحطات الخمس للحكومات عكست مسار تطور السلطة الفلسطينية، وتبدل قواعد اللعبة في العلاقات الداخلية بعد أن باتت محكومة بموازين مختلفة، وحالة السيولة السياسية التي يعيشها الوضع الفلسطيني، بالإضافة إلى مسلسل فضائح فساد مالي وإداري وإهدار المال العام، طالت عدداً كبيراً من الوزراء في الحكومات المتعاقبة.
ويسجل على الحكومات الفلسطينية تخبطها في حالة من البطالة السياسية، والشلل والعجز عن إطلاعها كما ينبغي بإدارة شؤون السلطة وأوضاعها، نجمت في المقام الأول عن التباينات في الأولويات المطروحة، والصراع على المواقع والامتيازات والمنافع الخاصة.
ولعبت الرؤى المتباينة لتكتيك إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي دوراً كبيراً في فشل تلك الحكومات في اعتماد سياسة وطنية جامعة بأفق برنامج مشترك، والافتقار إلى أجندة واضحة في هذا المضمار، ما حولَّها إلى مرآة للوضع الفلسطيني المنقسم على نفسه، والموزع على خطوط سياسية وتكتيكية متصارعة، تفاقم حصيلتها أزمات النظام السياسي الفلسطيني ككل.
ولم تمتلك الحكومات الفلسطينية برنامجاً للإصلاح المالي والإداري، باستثناء حكومات سلام فياض التي أقدمت على عدد من الإجراءات واجهت انتقادات من قوى وفصائل معارضة، عابت على فياض في فحواها ما وصفته بالانحناء أمام ضغوط خارجية إقليمية ودولية. وللإنصاف؛ إن هذه الانتقادات كانت مسيسة، فالإصلاحات المالية التي باشر فيها فياض، عندما شغل منصب وزير المالية في حكومة أحمد قريع الثانية، ضبطت نظام الصرف في صيغة أكثر شفافية وضعت حداً للفوضى والممارسات الملتوية، خاصة في الأجهزة الأمنية.
وعانت كل الحكومات الفلسطينية من تعثر في الأداء، فازداد الوضع الاقتصادي تدهوراً، واتسعت حالة الفقر، وارتفعت نسب البطالة، بينما اكتفت الحكومات بتعليق إخفاقاتها على الأعمال العدوانية للاحتلال الإسرائيلي، التي أثرت بالتأكيد، لكن في هذا الجانب أيضاً لم تقم الحكومات الفلسطينية بواجبها في استحضار ضغط دولي على الحكومات الإسرائيلية، بل أحجمت عن اتخاذ الخطوات الضرورية، واكتفت بلعب دور المراقب، وإصدار بيانات شجب فاقدة لأي قيمة عملية.
كما شابت علاقات الحكومات والرئاسة الفلسطينية علاقات متوترة مع المجلس التشريعي، في ظل مرحلة اللون الفتحاوي الواحد للحكومات والمجلس التشريعي، حتى الحكومة التاسعة التي استقالت في آذار (مارس) 2005، وتعاظمت الخلافات بين السلطات الثلاث بانتزاع حركة حماس أغلبية مقاعد التشريعي في انتخابات كانون الثاني (يناير) 2006. وهذا يعود بالأساس إلى طبيعة النظام السياسي الفلسطيني، الذي يتمتع فيه رئيس السلطة بصلاحيات تصادر الكثير من صلاحيات رئيس الحكومة، وكذلك صلاحيات المجلس التشريعي.
وعبّر فشل الحكومات الفلسطينية عن أزمة النظام السياسي الفلسطيني في النزاعات بين رئيس السلطة ورئيس السلطة، النابعة من هيمنة الدور الفردي، وتجلى فشل الحكومات في إخفاقها بترسيخ دور المؤسسة بديلاً لدور الفرد، وبناء اقتصاد وطني، والقضاء على مظاهر الفساد والتسيب، ناهيك عن عجزها في إدارة الشأن السياسي.
تداخل الحدود بين الحزب الحاكم، سواء حركة (فتح) أو حركة (حماس)، مظهر أخر من مظاهر أزمة النظام السياسي الفلسطيني، وسبب رئيس في فشل حكومات السلطة، ففي هذا النمط تصبح الإدارة الحكومية إدارة للحزب وليست إدارة للسلطة، وتتحول بعض الأجهزة الأمنية للسلطة إلى أجهزة أمنية للحزب الحاكم، مثلما هو قائم في قطاع غزة تحت سيطرة حكومة (حماس) المقالة، وفي الضفة الغربية التي تهيمن حركة فتح على كل مؤسسات السلطة فيها.
وبطبيعة الأمر؛ إن واقع تأسيس السلطة الفلسطينية وتطورها تحت الاحتلال، وعدم تحصينها بسياج شعبي وسياسي واسع يعطيها الاستقلالية والمقدرة على مواجهة الضغوط الإسرائيلية، ساهم في إفراز تجارب مشوهة للحكومات الفلسطينية، وفق نظام سلطوي خاضع للاحتلال وإجراءاته التعسفية.
ويخطئ من يظن أن الحكومة الفلسطينية الجديدة ستخلق واقعاً جديداً، فهي لا تضم ائتلافاً سياسياً فاعلاً، أو رؤية سياسية مشتركة بين أطرافها، وليست لديها أجندة لتنمية الحياة السياسية وإدخال إصلاحات جذرية على النظام السياسي الفلسطيني.
إنها جزء من إعادة إنتاج الأزمة بين حركتي (فتح) و(حماس)، وبين مكونات النظام السياسي والحركة الوطنية الفلسطينية، وهي حتماً لن تُمنح الاستقرار الكافي لوضع برامج عمل طموح، فالرئيس محمود عباس أكد بالفم الملآن أنه في حال الاتفاق مع حركة (حماس) فإن هذه الحكومة الجديدة لن يكون لها دور.
إنجاز وحيد تستطيع أن تعتد به حكومة فياض الخامسة، والسادسة عشرة في الترتيب العام للحكومات الفلسطينية، فرصة ترشيحها لدخول سجل غينتس للأرقام القياسية، وربما أيضاً بانتهاء ساعة رملها في فترة قياسية، لم يستبعدها الرئيس محمود عباس.
ومن سوء طالع الحكومة الجديدة أنها ستستمد أيامها من بقاء الانقسام الداخلي الفلسطينية، والصراع التناحري بين حركة (فتح) وحركة (حماس)، الذي لا يتمنى الفلسطينيون أن يدخل بدوره سجل غينتس.
0 comments: